فصل: فصل فيما ينبغي للتائب فعله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.فصل فيما ينبغي للتائب فعله:

وقد ذكرنا أن التائب ينبغي له أن يأتي بحسنات تضاد ما عمل من السيئات لتمحوها وتكفرها، والحسنات المكفرة تكون بالقلب واللسان والجوارح على حسب السيئات، فما كان بالقلب، فنحو التضرع والتذلل، وأما اللسان، الاعتراف بالظلم والاستغفار، مثل أن يقول: رب ظلمت نفسي فاغفر لي. روى في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من رجل يذنب ذنباً، فيتوضأ ويحسن الوضوء، ثم يصلى ركعتين، ويستغفر الله عز وجل، إلا غفر له». وأما الجوارح فبالطاعات، والصدقات، وأنواع العبادات.

.فصل في دواء التوبة وطريق علاج حل عقد الإصرار:

اعلم أنه لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى بالدواء إلا مناقضة أسباب الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده، وسبب الإصرار الغفلة والشهوة، ولا تضاد الغفلة إلا بالعلم، ولا تضاد الشهوة إلا بالصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة. الغفلة رأس الخطايا، فلا دواء إذاً للتوبة إلا بمعجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر، كما يجمع في السكنجبين حلاوة السكر وحموضة الخل، فيحصل بمجموعهما قمع الصفراء.
والأطباء لهذا المرض هم العلماء، لأنه مرض القلوب ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان، وإنما صار مرضها أكثر لأمور:
أحدها: أن المريض لا يدرى أنه مريض.
الثاني: أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم، بخلاف مرض الأبدان، فإن عاقبته مشاهد ينفر الطبع عنه، وما بعد الموت غير مشاهد، فقلّت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها، فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب، ويجتهد في علاج البدن من غير اتكال.
الأمر الثالث: وهو الداء العضال فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار، لأن الداء المهلك هو حب الدنيا، وقد غلب هذا الداء على الأطباء، فلم يقدروا على تحذير الخلق استنكافاً من أن يقال لهم: فما لكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم؟ فبهذا السبب عم الداء وانقطع الدواء.
فإن قيل: فما ينبغي للواعظ سلوكه من الخلق؟ فالجواب: أن ذلك يطول، لكنا نشير إلى الأعمال النافعة في ذلك، وهى أربعة أنواع:
الأول: أن يذكر ما في القرآن العزيز من الآيات المخوفة للمذنبين، وما ورد في الأخبار والآثار من ذلك، ويمزج ذلك بمدح التائبين.
النوع الثاني: حكايات الأنبياء عليهم السلام، والسلف الصالح، وما أصابهم من المصائب بسبب الذنوب، كحال آدم عليه السلام، وما لقي في عصيانه الإخراج من الجنة، وما جرى لداود وسليمان ويوسف عليهم السلام، ولم يورد القرآن هذه الأشياء إلا للاعتبار. وكان من سعادتهم معالجتهم بذلك، والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثما، ولأن عذاب الآخرة أشد، فينبغي أن يكثر من هذا على أسماع المصرين، فإنه نافع في تحريك دواعي التوبة.
النوع الثالث: أن يقرر عندهم، أن تعجل العقوبة في الدنيا متوقع، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب، فهو سبب جناياته، فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة يخاف عقوبة الدنيا أكثر لفرط جهله، والذنوب قد يتعجل في الدنيا شؤمها، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه». وقال فضيل بن عياض: إني لأعصى الله، فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي. وقال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة، ولا يفوت أحداً صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن المؤمن إذا أذنب كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في كتابه: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14]» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحسن رحمه الله: الحسنة نور في القلب، وقوة في البدن، والسيئة ظلمة في القلب، ووهن في البدن.
النوع الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات في آحاد الذنوب، كشرب الخمر، والزنى، والقتل، والكبر، والحسد، والغيبة.
وينبغي أن يكون طبيباً يعلم الداء، ويدرى كيف يصنع الدواء، فإن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أوصني، قال: «لا تغضب» وقال آخر: أوصني، فقال: «عليك باليأس مما في أيدي الناس».
فكأنه تخايل في الأول مخايل الغضب، وفي الثاني مخايل الطمع. وهذا الذي ذكرنا هو علاج الغفلة، فيبقى علاج الشهوة، وطريق علاجها يؤخذ مما ذكرنا في كتاب رياضة النفس ولابد من الصبر، فإن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره، وإنما يحمله على ذلك شدة شهوته، أو غفلته أو مضرته، فلابد من مرارة الصبر، وكذلك يعالج الشهوة في المعاصي، كالشاب مثلاً إذا غلبته شهوة، فصار لا يقدر على حفظ عينه وقلبه وجوارحه في السعي وراء الشهوة، فينبغي أن يستحضر المخوفات التي جاءت في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا اشتد خوفه تباعد عن الأسباب المهيجة للشهوة. والذي يهيج الشهوة من خارج، هو حضور المشتهى، والنظر إليه، وعلاجه: الجوع والصوم الدائم، وكل ذلك لا يتم إلا بصبر، ولا يصبر إلا عن خوف، ولا يخاف إلا عن علم، ولا يعلم إلا عن بصيرة، فأول الأمر حضور مجالس الذكر، والاستماع بقلب مجرد عن الشواغل، ثم التفكر فيما قيل، فينبعث الخوف، ويسهل الصبر، وتتيسر الدواعي لطلب العلاج، وتوفيق الحق سبحانه من وراء ذلك كله. فإن قيل: ما بال الإنسان يقع في الذنب مع علمه بقبح عواقبه؟ فعن ذلك أجوبة: منها: أن العقاب الموعود ليس بحاضر. ومنها: أن المؤمن إذا أذنب لابد أن يعزم على التوبة، وقد وعد أن التوبة تجبر ما فعل، وطول الأمل غالب على الطباع، فلا يزال يسوف بالتوبة، فلما رجا التوبة أقبل على الذنب. ومنها: أنه يرجو عفو الله عنه، وعلاج هذه الأسباب أن يفكر في نفسه أن كل ما هو آتٍ قريب، والمسوف يبنى الأمر على ما ليس إليه، وهو البقاء، فلعله لا يبقى، وإن بقى فربما لا يقدر على الترك غداً كما يقدر عليه اليوم، وهل عجز عن الحال إلا لغلبة الشهوة وهى غير مفارقة له غداً؟ بل يتأكد بالاعتياد، ومن هذا هلك المسوفون، لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين، وما مثال المسوف إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة، فرآها قوية لا تنقطع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود إليها، وهو لا يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه، فالعجب من عجزه مع قوته عن مقاومتها في حال ضعفها، كيف ينظر الغلبة إذا ضعف وقويت. وأما انتظار عفو الله تعالى، فعفو الله سبحانه ممكن، إلا أن الإنسان ينبغي له الأخذ بالحزم، وما مثال ذلك إلا كمثل رجل أنفق أمواله كلها، وترك نفسه وعياله فقراء ينتظر من الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في خربة، وهذا ممكن إلا أن صاحبه ملقب بالأحمق، والله سبحانه وتعالى أعلم.

.كتاب الصبر والشكر:

وهو شطران:
الأول: فضل الصبر وحقيقته وأقسامه ونحو ذلك. وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، فقال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} [السجدة: 24]. وقال: {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137] وقال: {إنما ي وفي الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10].
فما من قربة إلا أجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال الله تعالى: {الصوم لي وأنا أجزى به}. وقد وعد الله الصابرين بأنه معهم، وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 157] والآيات في هذا كثيرة.
وأما الأحاديث، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ما أعطى أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر» وفي حديث آخر: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد» وقال الحسن: الصبر من خاصية الإنسان، ولا يتصور في البهائم لنقصانها، وغلبة الشهوات عليها من غير شيء يقابلها، ولا يتصور الصبر أيضاً في الملائكة لكمالها، فإن الملائكة جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصدها عن حضرة الجلال.
وأما الإنسان فإنه يخلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح، وليس له قوة الصبر، فإذا تحرك العقل وقوى، ظهرت مبادئ إشراق نور الهداية عند سن التمييز، ولكنها هداية قاصرة لا مرشد لها إلى المصالح الآخرة، فإذا عقد بمعرفة الشرع تلمح ما يتعلق بالآخرة وكثر سلاحه، إلا أن الطبع يقتضي ما يحب، وباعث الشرع والعقل يمنع، والحرب بينهما قائمة، ومعركة هذا القتال قلب العبد، فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوات، فإن ثبت حتى قهر الشهوة التحقق بالصابرين، وإن ضعف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها، التحق بأتباع الشياطين، وإذا ثبت أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة الهوى، فهذه المقاومة من خاصية الآدميين.

.فصل في أقسام الصبر:

اعلم أن الصبر على ضربين:
أحدهما: بدني، كتحمل المشاق بالبدن، وكتعاطي الأعمال الشاقة من العبادات أو من غيرها.
الضرب الآخر: هو الصبر النفساني على مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، وهذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج، سمى عفة، وإن كان الصبر في قتال، سمى شجاعة، وإن كان في كظم غيظ سمى حلماً، وإن كان في نائبة مضجرة، سمى سعة صدر، وإن كان في إخفاء أمر سمى كتمان سر، وإن كان في فضول عيش سمى زهداً، وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمى قناعة.
وأما المصيبة، فإنه يقتصر فيها على اسم الصبر، فقد بان بما ذكرنا أن أكثر أخلاق الإيمان داخلة في الصبر، وإن اختلفت الأسماء باختلاف المتعلقات.
ثم اعلم أن العبد لا يستغني عن الصبر في كل حال من الأحوال، وذلك أن جميع ما يلقى العبد في الدنيا لا يخلو من نوعين:
النوع الأول: ما يوافق هواه من الصحة، والسلامة والمال، والجاه، وكثرة العشيرة، والأتباع، وجميع ملاذ الدنيا، فالعبد محتاج إلى الصبر في جميع هذه الأمور، فلا يركن إليها، ولا ينهمك في التلذذ بها، ويراعى حق الله تعالى في ماله بالإنفاق، وفي بدنه بالمعونة للحق.
ومتى لم يضبط نفسه عن الانهماك في الملاذ والركون إليها، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان، حتى قال بعض العارفين: المؤمن يصبر على البلاء، ولا يصبر على العافية إلا صدِّيق.
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرانا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
ولذلك قال الله تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} [المنافقون: 9] وقال تعالى: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} [الأنفال: 28] {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} [التغابن: 14]
فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، وهذا الصبر متصل بالشكر، فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر، وإنما كان الصبر على السراء شديداً، لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه عند حضور الطعام اللذيذ.
النوع الثاني المخالف للهوى وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: الطاعات، فيحتاج العبد إلى الصبر عليها، لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية.
ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة، ومنا ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببها جميعاً كالحج والجهاد.
ويحتاج المريد إلى الصبر على طاعته في ثلاثة أحوال:
حال قبل العبادة، وهى تصحيح النية، والإخلاص والصبر على شوائب الرياء، وحال في نفس العبادة، وهى أن لا يغفل عن الله تعالى في أثناء العبادة، ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ من العمل.
الحالة الثالثة بعد الفراغ من العمل: وهى الصبر عن إفشائه، والتظاهر به لأجل الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطل عمله، فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها.
القسم الثاني: الصبر عن المعاصي، وما أحوج العبد إلى ذلك.
ثم إن كان الفعل مما تيسر فعله، كمعاصي اللسان من الغيبة، والكذب والمراء ونحوه، كان الصبر عليه أثقل، فترى الإنسان إذا لبس حريراً استنكر ذلك، ويغتاب أكثر نهاره، فلا يستنكر ذلك. ومن لم يملك لسانه في المحاورات، ولم يقدر على الصبر، لم ينجه إلا العزلة.
القسم الثالث: ما لا يدخل تحت الاختبار: كالمصائب، مثل موت الأحبة، وهلاك الأموال، وعمى العين، وزوال الصحة، وسائر أنواع البلاء، فالصبر على ذلك من أعلى المقامات، لأن سنده اليقين. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من يرد الله به خيراً يصب به».
وقريب من هذا القسم، الصبر على أذى الناس، كالذي يؤذى بقول أو فعل أو جناية على نفسه أو ماله، والصبر على ذلك يكون بترك المكافآت.
والصبر على أذى الناس من أعلى المراتب، قال الله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186] وقال {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} [الحجر: 97] وقال: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126].
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الصبر ثلاثة: صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر عن المصيبة حتى يردها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الأخرى كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتبت له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين».
والأحاديث في فضائل الصبر كثيرة، منها: ما أخرجناه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها».
وفي حديث آخر: «ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» أخرجاه في الصحيحين.
وفي حديث آخر: «لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده وفي ماله وفي ولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة».
وفي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال «الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قال الله تعالى: «إذا وجهت إلى عبد من عبادي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً».

.فصل في آداب الصبر:

ومن آداب الصبر استعماله في أول صدمة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» حديث صحيح.
ومن الآداب الاسترجاع عند المصيبة، لحديث أم سلمة رضي الله عنها وهو من رواية مسلم.
ومن الآداب سكون الجوارح واللسان، فأما البكاء فجائز.
قال بعض الحكماء: الجزع لا يرد الفائت، ولكن يسر الشامت.
ومن حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب، كما فعلت أم سليم امرأة أبي طلحة لما مات ابنها، وحديثها مشهور في صحيح مسلم.
وقال ثابت البناني: مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، وقالوا: يموت عبد الله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهنا؟! قال: أفأستكين لها، وعدني ربى تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إلى من الدنيا وما فيها.
قال الله تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 156و 157].
وقال مطرف: ما شيء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء، إلا وددت أنه أخذ منى في الدنيا.
وكان صلة بن شيم في مغزىً له ومعه ابنه، فقال: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم فقتل، فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية، فقالت: مرحباً إن كنتن جئتن تهنئنني، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
وإذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها، فكتمانها من نعم الله عز وجل الخفية.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فيقول: انظروا ما يقوله لعواده، فإن هو حمد الله تعالى إذا دخلوا عليه، رفعا ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم، فيقول: لعبدي إن أنا توفيته أن ادخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه خطاياه».
وقال على رضي الله عنه: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك.
وقال الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، ما ذكرتها لأحد.
وقال رجل للإمام أحمد: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: بخير في عافية. فقال له: حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك، لا تخرجني إلى ما أكره.
وقال شقيق البلخي: من شكي مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبداً.
وقال بعض الحكماء: من كنوز البر كتمان المصائب، وقد كانوا يفرحون بالمصائب نظراً إلى ثوابها، وحكاياتهم مشهورة في ذلك.
منها: ما روى أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما مات دفنه عمر، وسوى عليه ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس، فقال: رحمك الله بابني! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه.
فإن قيل: إن كان المراد من الصبر عدم كراهية المصائب، فلا قدرة للآدمي على ذلك، وإن كان الفرح بوجودها كما حكيتم، فهو أبعد.
والجواب: أن الصبر لا يكون إلا عن محبوب أو على مكروه، ولا ينهى عما لا يدخل تحت الكسب، وهو انزعاج الباطن، وإنما ينهى عن المكتسب، كشق الجيوب، ولطم الخدود، والقول باللسان، فأما ما ذكرنا من فرح بعضهم، فذلك فرح شرح لا طبعي، إذ الطبع لابد له من كراهة المصائب.
ومثال هذا رجل مريض له شربة لمرضه، فسعى في طلب حوائجها، وأنفق عليها مالاً، فلما تمت، فرح بتمامها وتناولها لما يرجو لها من العافية، فأما طبعه، فما زالت عنه كراهة التناول أصلاً. ولو أن ملكاً قال لرجل فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار، لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم، ولكن لما يرجوا من عاقبة، وإن أنكاه الضرب، فكذلك السلف تلمحوا الثواب، فهان عليهم البلاء.

.فصل في بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه:

اعلم أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد بالشفاء، فالصبر وإن كان شاقاً فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل، فمنهما تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها، فيحتاج كل مرض إلى علم وعمل يليق به، فإن العلل إذا اختلفت اختلف العلاج، إذ معنى العلاج: مضادة العلة.
ونضرب لك مثالاً، فنقول: إذا افتقر الإنسان إلى الصبر عن شهوة الجماع، وقد غلبت عليه بحيث لا يملك فرجه ولا عينه ولا قلبه، فعلاج ذلك بثلاثة أشياء:
أحدها: مواظبة الصوم، والاقتصار عند الإفطار على قليل من الطعام.
الثاني: قطع أسباب المهيجة، فإنه إنما يهيج بالنظر، والنظر بالقلب، والقلب يحرك الشهوة، ودواء هذا العزلة، والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة، فان النظر سهم مسموم من سهام إبليس، ولا يمنع عنه إلا غمض الجفن أو الهرب.
الثالث: تسلية النفس بالمباح من جنس المشتهى، وذلك بالنكاح، وكل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففي المباحات غنية عنه، وهذا هو العلاج الأرفع في حق أكثر الناس، لأن قطع الغذاء يضعف، ولا يقمع الشهوة بخلاف هذا.
وينبغي للإنسان أن يعود نفسه المجاهدة، فإن من عَّود نفسه مخالفة الهوى، غلبها متى أراد.
واعلم أن أشد أنواع الصبر والمجاهدة، كف الباطن من حديث النفس، وإنما يشتد ذلك على من تفرغ واعتزل، فان الوساوس لا تزال تجاذبه، ولا علاج لهذا إلا قطع العلائق، وجعل الهم هماً واحداً، وصرف الفكر إلى ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع اللَّه تعالى، وجميع أبواب معرفة الله تعالى، حتى إذا استولى ذلك على قلبه، دفع اشتغاله مجاذبة الشيطان ووسواسة، وإن لم يكن له سير الباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة، من القراءة، والأذكار، والصلوات، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، فإن الفكر الباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة، فهذا الذي يمكن أن ينال بالاكتساب والجهد.
فأما مقادير ما ينكشف، ومبالغ ما يرد من لطف الله تعالى من الأحوال والأعمال، فذلك يجرى مجرى الصيد، وهو بحسب الرزق، فقد يقل الجهد، ويكثر الصيد، وقد يطول الجهد ويقل الصيد، والمعلوم وراء هذا الاجتهاد على جذبه من جذبات الرحمن عز وجل، فإنها توازى أعمال الثقلين، وليس ذلك اختيار العبد، بل اختياره أن يتعرض لتلك الجذبة، بأن يقلع عن قلبه جواذب الدنيا، فان المجذوب إلى أسفل سافلين، لا يجذب إلى أعلى عليين، وكل منهوم بالدنيا هو منجذب إليها، فقطع العلائق الجاذبة، هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها». فالذي علينا تفريغ المحل، والانتظار لنزول الرحمة، كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش، ويضع فيها البذر، وكل ذلك لا ينفع إلا بمطر، ولا يدرى متى يقدر الله أسباب المطر، إلا أنه يثق بفضل الله تعالى أنه لا يخلى سنة عن مطر، وكذلك قلما تخلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات.
فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب من حشيش الشهوات، وبذر الإرادة والإخلاص، وعرضه لمهاب ريح الرحمة، وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع عند ظهور الغيم، كذلك انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة، وعند اجتماع الهم ونشاط القلوب، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وفي رمضان. والهمم والأنفاس أسباب لاستدرار رحمة الله تعالى بحكمته وتقديره.